فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

وجملة {الذين يتربّصون بكم} صفة للمنافقين وحدَهم بدليل قوله: {وإن كان للكافرين نصيب}.
والتربّص حقيقة في المكث بالمكان، وقد مرّ قوله: {يتربّصن بأنفسهنّ} في سورة [البقرة:228].
وهو مجاز في الانتظار وترقّب الحوادث.
وتفصيله قوله: {فإن كان لكم فتح من الله} الآيات.
وجُعل ما يحصل للمسلمين فتحًا لأنّه انتصار دائم، ونُسب إلى الله لأنّه مُقدّره ومريده بأسباب خفيّة ومعجزات بينّة.
والمراد بالكافرين هم المشركون من أهل مكة وغيرهم لا محالة، إذ لا حظّ لليهود في الحرب، وجعل ما يحصل لهم من النصر نصيبًا تحقيرًا له، والمراد نصيب من الفوز في القتال.
والاستحواذ: الغلبة والإحاطة، أبقوا الواو على أصلها ولم يقلبوها ألفًا بعد الفتحة على خلاف القياس.
وهذا أحد الأفعال التي صُحّحت على خلاف القياس مثل: استجوب، وقد يقولون: استحاذ على القياس كما يقولون: استجَاب واستصاب.
والاستفهام تقريري.
ومعنى {ألم نستحوذ عليكم} ألم نتولّ شؤونكم ونحيط بكم إحاطة العنايية والنصرة ونمنعكم من المؤمنين، أي من أن ينالكم بأسهم، فالمنع هنا إمّا منعٌ مكذوبٌ يخَيِّلُونه الكفارَ واقعًا وهو الظاهر، وإمّا منع تقديري وهو كفّ النصرة عن المؤمنين، والتجسّس عليهم بإبلاغ أخبارهم للكافرين، وإلقاء الأراجيف والفتن بين جيوش المؤمنين، وكلّ ذلك ممّا يضعف بأس المؤمنين إن وقع، وهذا القول كان يقوله من يندسّ من المنافقين في جيش المسلمين في الغزوات، وخاصّة إذا كانت جيوش المشركين قرب المدينة مثل غزوة الأحْزاب. اهـ.

.قال الفخر:

{فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة} أي بين المؤمنين والمنافقين: والمعنى أنه تعالى ما وضع السيف في الدنيا عن المنافقين، بل آخر عقابهم إلى يوم القيامة.
ثم قال: {وَلَن يَجْعَلَ الله للكافرين عَلَى المؤمنين سَبِيلًا} وفيه قولان:
الأول: وهو قول علي عليه السلام وابن عباس رضي الله عنهما: أن المراد به في القيامة بدليل أنه عطف على قوله: {فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة}
الثاني: أن المراد به في الدنيا ولكنه مخصوص بالحجة، والمعنى أن حجة المسلمين غالبة على حجة الكل، وليس لأحد أن يغلبهم بالحجة والدليل الثالث: هو أنه عام في الكل إلا ما خصه الدليل، وللشافعي رحمه الله مسائل: منها أن الكافر إذا استولى على مال المسلم وأحرزه بدار الحرب لم يملكه بدلالة هذه الآية، ومنها أن الكافر ليس له أن يشتري عبدًا مسلمًا بدلالة هذه الآية، ومنها أن المسلم لا يقتل بالذمي بدلالة هذه الآية. اهـ.

.قال الألوسي:

{فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة} فيثيب أحباءه ويعاقب أعداءه، وأما في الدنيا فأنتم وهم سواء في العصمة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم» وفي الكلام قيل: تغليب، وقيل: حذف أي بينكم وبينهم {وَلَن يَجْعَلَ الله للكافرين عَلَى المؤمنين سَبِيلًا} أي يوم القيامة وحين الحكم كما قد يجعل ذلك في الدنيا ابتلاءًا واستدراجًا، وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو في الدنيا أي لم يجعل لهم على المؤمنين سلطانًا تامًا بالاستئصال، أو حجة قائمة عليهم مفحمة لهم، وحكي ذلك عن السدي، ويجوز إبقاء الكلام على إطلاقه ليشمل الدنيا والآخرة ولعله الأولى، واحتج الشافعية بالآية على فساد شراء الكافر العبد المسلم لأنه لو صح لكان له عليه يد وسبيل بتملكه، ونحن نقول: يصح ولكن يمنع من استخدامه والتصرف فيه إلا بالبيع والإخراج عن ملكه فلم يحصل له سبيل عليه، واحتج بظاهرها بعض الأصحاب على وقوع الفرقة بين الزوجين بردة الزوج لأن عقد النكاح يثبت للزوج سبيلًا في إمساكها في بيته وتأديبها ومنعها من الخروج وعليها طاعته فيما يقتضيه عقد النكاح، والمؤمنين والكافرين شامل للإناث وكذا الكافر إذا أسلمت زوجته، وضعف بأن الارتداد لا ينفي أن يكون النكاح إذا عاد إلى الإيمان قبل مضي العدة، واعترض بأنه حين الكفر لا سبيل له ونفي السبيل بوقوع الفرقة وبعد وقوع الفرقة لابد لحدوث العلقة من موجب وهو ظاهر فإن كان العود يكون الارتداد كالطلاق الرجعي، والعود كالرجعة فلا ضعف فيه.
وأنت تعلم أنه إذا كان نفي السبيل في الآخرة أو في الدنيا بالاستئصال، أو السبيل بمعنى الحجة لا متمسك في الآية لأصحابنا ولا الشافعية فلا تغفل. اهـ.

.قال الشوكاني:

قوله: {فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة} بما انطوت عليه ضمائرهم من النفاق والبغض للحق وأهله، ففي هذا اليوم تنكشف الحقائق، وتظهر الضمائر، وإن حقنوا في الدنيا دماءهم، وحفظوا أموالهم بالتكلم بكلمة الإسلام نفاقًا {وَلَن يَجْعَلَ الله للكافرين عَلَى المؤمنين سَبِيلًا}، هذا في يوم القيامة إذا كان المراد بالسبيل: النصر والغلب، أو في الدنيا إن كان المراد به الحجة.
قال ابن عطية: قال جميع أهل التأويل: إن المراد بذلك يوم القيامة.
قال ابن العربي: وهذا ضعيف لعدم فائدة الخبر فيه، وسببه توهم من توهم أن آخر الكلام يرجع إلى أوّله يعني قوله: {فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة} وذلك يسقط فائدته، إذ يكون تكرار هذا معنى كلامه وقيل المعنى: إن الله لا يجعل للكافرين سبيلًا على المؤمنين يمحو به دولتهم، ويذهب آثارهم، ويستبيح بيضتهم، كما يفيده الحديث الثابت في الصحيح «وألا أسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا» وقيل إنه سبحانه لا يجعل للكافرين سبيلًا على المؤمنين ما داموا عاملين بالحق غير راضين بالباطل، ولا تاركين للنهي عن المنكر، كما قال تعالى: {وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] قال ابن العربي: وهذا نفيس جدًا.
وقيل: إن الله لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا شرعًا، فإن وجد، فبخلاف الشرع.
هذا خلاصة ما قاله أهل العلم في هذه الآية، وهي صالحة للاحتجاج بها على كثير من المسائل.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {فالله يحكم بينكم يوم القيامة} الفاء للفصيحة، والكلام إنذار للمنافقين وكفاية لمُهمّ المؤمنين، بأن فوّض أمر جزاء المنافقين على مكائدهم وخزعبلاتهم إليه تعالى.
وقوله: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا} تثبيت للمؤمنين، لأنّ مثيل هذه الأخبار عن دخائل الأعداء وتألبّهم: من عدوّ مجاهر بكفره.
وعدو مصانع مظهر للأخوّة، وبيان هذه الأفعال الشيطانية البالغة أقصى المكر والحيلة، يثير مخاوف في نفوس المسلمين وقد يُخيِّل لهم مَهاوي الخيبة في مستقبلهم.
فكان من شأن التلطّف بهم أن يعقّب ذلك التحذير بالشدّ على العضد، والوعد بحسن العاقبة، فوَعدهم الله بأن لا يجعل للكافرين، وإن تألّبت عصاباتهم.
واختلفت مناحي كفرهم، سبيلًا على المؤمنين.
والمراد بالسبيل طريق الوصول إلى المؤمنين بالهزيمة والغلبة، بقرينة تعديته بعَلَى، ولأنّ سبيل العدوّ إلى عدوّه هو السعي إلى مضرّته، ولو قال لك الحبيب: لا سبيل إليك، لتحسّرت؛ ولو قال لك العدوّ: لا سبيل إليك لتهلّلت بشرًا، فإذا عُدّي بعلى صار نصًا في سبيل الشرّ والأذى، فالآية وعد محض دنيوي، وليست من التشريع في شيء، ولا من أمور الآخرة في شيء لنبوّ المقام عن هذين.
فإن قلت: إذا كان وعدًا لم يجز تخلّفه.
ونحن نرى الكافرين ينتصرون على المؤمنين انتصرًا بيّنًا، وربما تملّكوا بلادهم وطال ذلك، فكيف تأويل هذا الوعد.
قلتُ: إن أريد بالكافرين والمؤمنين الطائفتان المعهودتان بقرينة القصّة فالإشكال زائل، لأنّ الله جعل عاقبة النصر أيّامئذٍ للمؤمنين وقطع دابر القوم الذين ظلموا فلم يلبثوا أن ثقفوا وأخذوا وقتّلوا تقتيلًا ودخلت بقيتهم في الإسلام فأصبْحوا أنصارًا للدين؛ وإن أريد العموم فالمقصود من المؤمنين المؤمنون الخلّص الذين تلبّسوا بالإيمان بسائر أحواله وأصوله وفروعه، ولو استقام المؤمنون على ذلك لما نال الكافرون منهم منالًا، ولدفعوا عن أنفسهم خيبة وخبالًا. اهـ.

.قال ابن جرير:

{ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا}، يعني: حجة يوم القيامة.
وذلك وعدٌ من الله المؤمنين أنه لن يدخل المنافقين مدخلَهم من الجنة، ولا المؤمنين مدخَل المنافقين، فيكون بذلك للكافرين على المؤمنين حجة بأن يقولوا لهم، إن أدخلوا مدخلهم: ها أنتم كنتم في الدنيا أعداءَنا، وكان المنافقون أولياءنا، وقد اجتمعتم في النار، فجمع بينكم وبين أوليائنا! فأين الذين كنتم تزعمون أنكم تقاتلوننا من أجله في الدنيا؟ فذلك هو السبيل الذي وعد الله المؤمنين أن لا يجعلها عليهم للكافرين. اهـ.

.قال السعدي:

{وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} أي: تسلطا واستيلاء عليهم، بل لا تزال طائفة من المؤمنين على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، ولا يزال الله يحدث من أسباب النصر للمؤمنين، ودفعٍ لتسلط الكافرين، ما هو مشهود بالعيان. حتى إن بعض المسلمين الذين تحكمهم الطوائف الكافرة، قد بقوا محترمين لا يتعرضون لأديانهم ولا يكونون مستصغرين عندهم، بل لهم العز التام من الله، فله الحمد أوّلا وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤمنين سَبِيلًا} فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤمنين سَبِيلًا} للعلماء فيه تأويلات خمسة: أحدها ما روي عن يُسَيع الحضرمِيّ قال: كنت عند عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له رجل يا أمير المؤمنين، أرأيت قول الله: {وَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤمنين سَبِيلًا} كيف ذلك، وهم يقاتلوننا ويظهرون علينا أحيانًا! فقال عليّ رضي الله عنه: معنى ذلك يوم القيامة يوم الحكم.
وكذا قال ابن عباس: ذاك يوم القيامة.
قال ابن عطية: وبهذا قال جميع أهل التأويل.
قال ابن العربيّ: وهذا ضعيف: لعدم فائدة الخبر فيه، وإن أوهم صدر الكلام معناه؛ لقوله تعالى: {فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة} فأخّر الحكم إلى يوم القيامة، وجعل الأمر في الدنيا دُولًا تَغلِب الكفار تارةً وتُغلَب أخرى؛ بما رأى من الحكمة وسَبَقَ من الكلمة.
ثم قال: {وَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤمنين سَبِيلًا} فتوهّم من توهّم أن آخر الكلام يرجع إلى أوّله، وذلك يسقط فائدته، إذ يكون تكرارًا.